الأولاد

Al Awlad by Samiah Khashoggi

( من يوم ما قالوا غلام انشد ضهري وقام و رقَّدوني في المقام وقالوا أرقدي يا أم الغلام، و من يوم ما قالوا بنيَّة انهدَّت الحيطة عليّا وأكَّلوني البيض بقشره وبدال السمن مَيَّه)
(من يوم ما قالوا غلام قُلت يا ليلة ضلام أربِّيه وأربربه وتجي تاخده بنت الحرام، و من يوم ما قالوا بنيَّة قلت الحبيبة جيَّة تكنِّسلي و تفرِّشلي وتملِّيلي الشريبة ميَّه)

على هذه الترانيم كانت أمِّي و نساء جيلها تُهَدهِدُنِي أنا وإخوتي وبقية المواليد، عندما كبرت قليلًا و تأمَّلتُ في هذه الكلمات انتابني شعورٌ أنَّ الرغبة القديمة بوأد الإناث تسللت كأفعى رقطاء بصمتٍ مطبق و بثَّت سمومها في عقول الأجيال واحدًا بعد آخر !
كنت أعبِّر عن غضبي من هذه التفرقة العنصرية بأن أزمجر:( ليش يعني ؟ إشمعنى يفرحوا لمّا يجي ولد ؟ ولمّا تجي بنت أهم شي تكنِّس وتفرِّش ؟ وكمان لمَّا تتجوَّز الولد تصير بنت حرام، مو هيَّا بنت زيَّكم؟)

كانت أمِّي تنظر إليَّ وكأنني مصابة بمسٍ من جنون و تنبِّئني نظراتها المتوجِّسة بالسؤال الغير منطوق ( لماذا لا يعمل عقل هذه الفتاة كبقية خلق الله؟) ثم تجيب: ( هي أغنية سمعناها وغنِّيناها زي ما غنُّوها، ما كان عندنا فلسفة ولكاعة ! )
فأرد عليها باستغراب:( الأسئلة وتشغيل المخ يسموه عندكم لكاعة؟)

لحسن حظِّي ُوجدتُ في عائلة تعامل الفتيات بمودة واحترام ، فقد كان أبي يعاملني أنا وأختي بلطف وحنان ويُساوي بيننا وبين الذكور في المعاملة و الأُعطِيات، فالفتاة في منزلنا لها الحق بإبداء رأيها في أمور الحياة المختلفة واتخاذ ما يخصها من قرارات، و بطبيعة الحال نشأ أشقاؤنا على ما كان عوَّدهم أبونا فكانوا لنا أصدقاء نمرح معهم ونشاورهم و نشدُ عضُدنا بهم .

في مرحلة المراهقة كنت أسمع رفيقاتي يندبن حظَّهن العاثر بسبب تحكم إخوتهن الذكور في تصرفاتهن وتأييد أمهاتهن لهذا التعسُّف. فهمُّ الأم الأكبر أن يشب ابنها رجلًا ذا هيبة و كلمة مسموعة في بيته و إذا لم يتمكن من فرض أوامره على أخواته البنات فكيف سيسيطر بعد ذلك على زوجته ويجعلها تسير طوع أمره؟

كانت الدهشة تعتريني لأنَّ واقعي مختلف من جهة، ولأنَّ دعوة التفضيل التي تنادي بها الأغاني الملعونة تُطلُ برأسها من جديد من جهةٍ أخرى فلا أجد إلَّا أن أطرح عليهنَّ الحلَّ السحري الذي يتفتَّق عنه ذهني: ( طيِّب ليش ما تقولوا لأبَّهاتكم عشان يساعدوكم؟)
تتساءل صديقاتي باستغراب: ( يساعدونا في إيش؟)
أجيب بأريحية : ( في إنَّكم تتصرفوا بحرية و تقرروا إيش تبغوا تسووا من غير تحكُّمات أخوانكم ).

تتبرع نائلة بالرد علي: ( أَبِيَّة، أحيانًا أحس إنِّك عايشة في دنيا تانية غير دنيتنا، المساواة والمثاليات اللي في القصص والأفلام اللي بتتفرجي عليها مكانها هناك وبس، لكن هنا البنت لازم تسمع كلام الولد عشان تطلع امرأة صالحة وتلقى أحد يتزوجها ! لأنه ربنا بيقول:( الرجال قوَّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا)، إذا ربَّنا مفضِّلهم حنعترض على حكم الله؟؟)

أحاول جاهدةً أن أجد أي منطق في هذا الحديث و أسألها :
( يعني بالله عليكِ ربنا العادل حيخلقنا بني آدمين ويخلِّي الرجال درجة أولى ويخلِّينا نحن الستات درجة ثانية؟ أكيد في خلل في فهمك للآية!)
تنظر إليَّ نائلة شزرًا و تجيبني بتهكم:( والله الخلل واضح إنه في مخك اللي لطشته روايات الخواجات وأفلامهم، هادي عاداتنا و ديننا اللي نعرفه ، وفلسفتك دي أكبر دليل إنه النساء ناقصات عقلٍ ودين).

أحاول أن أتمالك أعصابي وأسأل بهدوء:( طيب إذا ربنا خلَّى الرجال أفضل من الستات ليش زعلانين وبتشتكوا من شي إنتوا شايفينه عدل؟)

تتوجَّه الفتيات بأعينهن المتسائلة إلى نائلة التي حسمت النقاش بقولها:( هادي مو شكاوي، أهو كلام نضيَّع بيه الوقت ، وبعدين مو كل شي الواحد يتشكَّى منه يكون مضايقه، لو دوَّرتي جوّا كل واحدة من اللي بيشتكوا تلاقيها مبسوطة إنه لها أخ وسند يزعِّلها ويتحكم فيها عشانه خايف عليها ويبغى مصلحتها، بدل ما تكون ماشية على كيفها زيَّ الغنمة الساربة).

تؤمِّن البقية على كلامها بهزهزة رؤوسهن لأعلى وأسفل ولسان حالهنَّ يقول (إنَّا وجدنا آبائنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مهتدون)
أمَّا أنا فأكبح زمام لساني عن الاستمرار في هذه المهاترات و في ثنايا عقلي يتردد صدى المثل القائل: ( سوس الحب منُّه و فيه).

تكبر المراهقات و يصبحن زوجات ثم أمهات و تزرع كل أنثى في أبنائها وبناتها ما تحمله من قناعات و معتقدات فثلَّةٌ منهن صورةٌ لنائلة التي ترى واجبها دعم الرجل بكل الطرق ليفرض وصايته ويُحكم قبضته على عقل الأنثى و تصرفاتها حتى لا تحيد عن الطريق القويم ويحاسبه الله على إفسادها في الأرض، و ثلَّةٌ أخرى صورةٌ لأَِبيَّة التي ترفض أن تصدِّق أنَّ الله خلقها لتكون عاملًا مساعدًا للرجل في تأدية دوره ثم يُحاسبها في الآخرة ككائن مكتمل الأهليَّّة، أمَّا السواد الأعظم فهنَّ يؤمنَّ أنَّ الحياة (بطِّيخة مقفولة) فالمحظوظة منهن ستكون (بطِّيختها حمرا) و الرجال في حياتها سيعاملونها بتقديرٍ واحترام، أمَّا قليلة الحظ ف( بطِّيختها قرعا) و سيتناسب تعامل الرجل معها طرديًا مع شدّة قرع البطيخة و ليس لها عند ذلك إلّا الصبر حتَّى يجود عليها الزمان برجلٍ ينصفها أو بآخرة تستحق فيها منازل الصابرات.

Contributors