جلستْ القرفصاء، تتأمل متفحصةً من خلال ثقبٍ في وسط الحائط العالم الآخر،أقصد الجنس الآخر.
لهذا الثقب تاريخٌ طويل، لا بد أن أرويه لكم هنا، هذا الثقب كان عبارةً عن ثقبٍ قامبه عاملُ الكهرباء، لكي يمرر من خلاله سلك المروحة المعلقة في السقف، حينماكانت هي طفلة صغيرة. ثم تم الاستغناء عن هذه المروحة فيما بعد فتم سحبالسلك وإزالته، وبقي الثقب في الجدار -كما نستغني في مسار حياتنا عن أشياءكثيرة لكن تبقى آثارها في وجداننا- ولكنها لم تنتبه لهذا الثقب الصغير في الحائط.
حتى جاء يومٌ سمعتْ فيه ضجةً عالية وضوضاءً ملفتة، وتحرقت لمعرفة ما يدورفي فناء مدرسة الصبيان الثانوية التي تقع خلف منزلها، حينها فقط لمحت الثقب،ألصقت عينها فيه فما رأت غير بصيصٍ من ضوء، وأشباح تتحرك لا تكاد تستبينها.كانت وقتها في الصف الرابع الابتدائي، نظفت الثقب بكافة الوسائل فاستبانتالرؤية من خلاله أكثر. ثم على مدى الأعوام المتتالية عملت على توسعة الثقببالسكين وبالقلم وبالمبرد، وبكل ما يمكن أن يسهل عليها الرؤية من خلاله.
وحينما وصلت للصف الثالث المتوسط كان هناك مهرجان مسائي للحرف في فناءالمدرسة وكانت وحدها في البيت، حاولت أن ترى أكبر قدر ممكن من الشباب،لكن الرؤية كانت ليست في الجودة المطلوبة أولاً من أجل أهمية الحدث، ثانياً منجهة عدد الطلبة الكبير المشاركين في المهرجان، وثالثاً لأجل عمرها الذي يمتازبالفضول والرغبة في الاستطلاع ورؤية التفاصيل، حينها كان لابد من أن تستعيرفي هدوء الثقاب الكهربائي من عدة النجارة الخاصة بأخيها الكبير، لكي توسعالثقب إلى ثلاثة أضعافه، فكانت تحفر ثم تنظف، ثم تجرب الثقب بالنظر من خلاله،ثم تعود للحفر من جديد، حتى شعرت بأن حجم الثقب أصبح مثالياً للرؤية منخلاله بوضوح فاكتفت، وأرجعت الثقاب الكهربائي لخزانة أخيها بعد أن أزالت آثار الاستخدام.
وفيما تلى ذلك من الأيام كانت تستعمل الثقب للرؤية والمراقبة ثم تسده بمناديلورقيّة حتى لا تتسرب من خلاله الهوام لحجرتها.
كان هذا الثقب الذي تتقرفص عنده فتحل واجباتها المنزلية، أو تشرب عصيرها أوتتناول عشاءها، كان منظارها للعالم الآخر، أقصد لعالم الشباب. منذ الفصل الرابعالابتدائي بدأ برج المراقبة العمل لكن بطاقة استيعابية صغيرة، كانت فقط تنظر منخلاله عند حدوث أصوات ملفتة أو تشجيع أو نداء متتالي في الفترة المسائيةللأنشطة الشبابية، لكن مع مضي الزمن زاد الوقت الذي أصبحت تقضيه في برجالمراقبة، وأصبح البرج هو تسليتها الحقيقية في النهار لو غابت عن مدرستها لأيسببٍ من الأسباب، وخاصةً في أيام المراجعة قبل الاختبارات. ثم أصبحت تقضيكل فترة النشاط المسائي في المراقبة فلا تخرج ولاتتحرك من حجرتها إلا معنهاية النشاط وانتهاء المباريات، وتتعلل بحل الواجبات وقراءة الدروس.
في المرحلة المتوسطة كانت تدعو صديقتيها المقربتين للمشاهدة معها والتحليلوالنقد لهذا الشاب أو ذاك الفتى.
لكن عندما دخلت المرحلة الثانوية أصبح للبرج كينونتة الملتصقة بها فشعرتبملكيتها الخاصة له. فأصبحت تحب الانفراد في المشاهدة والنقد والتحليلالفردي ثم تنقل مشاهداتها لصديقاتها في المدرسة. فتتزعم الحلقة وتستمع لهاالزميلات بإنصاتٍ شديد وهي تصف ما يدور في أجواء الفناء الخلفي لمدرسةالأولاد الثانوية التي تقع خلف بيتهم. كانت تصف الأشخاص بلبسهم وسلوكهموانجازاتهم وفي مراتٍ قليلة جداً تستطيع نقل حواراتهم. كانت تضفي صفاتالبطولة على هذا الشاب وصفات السفالة والنذالة على آخر، والمستمعات يطربنوهن يسمعن وصفها وتحليلها، فتثير تخيلاتهن وتبني معهن أحلامهن.
هذا الثقب الذي من خلاله كانت تقريباً كل يوم تتخير الولد المثالي. وكانت المثاليةالتي تبحث عنها تتطور مع تطورها العمري ونضجها الفكري، في سنوات الابتدائيةكان المثالي هو المتفوق الذي ينجح في مباريات كرة القدم بمهارة، ويحرزالأهداف.
عندما أصبحت في المتوسطة أضافت الوسامة المعقولة والقوة الجسدية لمعيارالولد المثالي، ثم عندما وصلت للثانوية أضافت القيادة للصفات المثالية فأصبحالمحترف في لعب الكرة الذي يسبب الهدف أو يتسبب به، الوسيم، القادر علىالمحافظة على هدوئه وأخلاقه في الملعب، الذي يساعد المصاب ويتحلى بروحرياضية هو الولد المثالي.
حين وصلت لمرحلة الدراسة الجامعية بدأ الثقب يتنحى بهدوء من حياتها، بداوكأن ثقبها لم يعد كافياً لها، لم يعد يتسع لأحلامها، وأصبحت تحتاج للانتقاللمرحلة التجارب الحقيقية وليس فقط المراقبة والخيال. وبمرور السنوات أصبحتلاميذ المدرسة الثانوية عيالاً في نظرها، وكانت قلما تتأمل بعض المعلميين فيالساحة. أصبحت تتطلع للشاب المثقف المتعلم الذي يبهرها بطلعته ويشلتفكيرها بذكائه وحججه.
لم تعد تنظر من الثقب البتة حتى صار الثقب يبحث عنها ويشتاق لجلستهاالتاريخية معه. وفي يومٍ من الأيام جاء عاملُ البناء بناءً على طلبها، ورقع الثقبَبشئ من الجبس الأبيض ثم دهن الحائط كاملاً بلون جديد.
اختفى الثقب، لكن في الحقيقة زادت عدد الثقوب التي حفرتها ورقعتها، فقد تغيرت أمورٌ كثيرة بعد أن اختفى الثقب. سافرت، تعلمت، خالطت بشر كُثُر لكنعيناها التي ألفت النظر من الثقب واعتادت صناعة الأوهام والأحلام، بقيت دوماًلا تأنس لرؤية الآخر إلا من خلال ثقب..