صرخةٌ تصُّمُ آذاني، آآآه، بعدها ينخفض الصوت ويتحول الصراخ إلى أنين.. أسمع هنا أنين وهناك تأوهات، من هنا أسمع حواراً هادئاً، ومن هناك تتناول أذنيَّ حواراً ساخطاً متذمراً، وبجواري صمتٌ رهيب.
حجراتٌ متجاورةٌ لكنها متفاوتة، بداخلِ كلٍ منها حالةٌ، وراءَ كل ستار خصوصيةٌ وقصة، يَسدُل الستار أو يفتحه إنسانٌ في معاناة.
اختلط الناس وازدحموا في داخل تلك المنطقة من المبنى الضخم، بساحاته الواسعة وحجراته المعقمة، رائحة المساحيق المطهرة اختلطت مع روائح الغازات والأدوية، إنها منطقة استقبال الطواري بالمستشفى بحجراتها المتنوعة.
المكانُ يموج في حركةٍ مستمرة، موجاتٌ من الناس تتحركُ في طرقٍ مستقيمة ومتعرجة.
منذ ساعاتٍ قليلة وقفتْ سيارةُ الإسعاف أمام الباب الزجاجي الضخم، بسرعة فُتِح الباب وخرج من العمق سريراً متنقلاً، يجره إثنان من الممرضين الرجال اليافعين..
وضعوا زوجي على كرسي متحرك، وتم إدخاله بسرعة للمعاينة، وأنا أُسابِقُ الكرسي للحاق بهم، وقفتُ مع أوراقٍ ُتعبأ، أخرجتُ تصاريح وهويات وقمت بالمزيد من الإجراءات. أتنقل بلا وعي ما بين الاستقبال، وحجرةِ الطوارئ المخصصة لاستقبال المرضى الذكور للاطمئنان عليه. الحرارة مرتفعة جدا، زوجي يهذي. والأطباء يتوافدون، كلٌ بحسب تخصصه يُجري فحوصاته ويُملي طلباتهِ، أشعة للصدر، أشعة للأوردة الدموية، ثم أشعة مقطعية، فحوصات مخبرية وتحاليل.
أبحث وسط الأطباء والممرضات عن الإنسان قبل الطبيب، هنا في هذا المكان قليلٌ جدا من ينطبق عليه لفظ الإنسان، يرغبون فقط في إنهاء أعمالهم وإجراءاتهم، فالتعامل فظ وغليظ، ولا أحد يشرح للمرضى أو يفسر لهم ما يجري، حالة زوجي معقدة، وتحتاج للحوار والإنصات، تحتاج لإنسان يقدر فهمك وعقلك ثم يستطيع ان يلمس قلبك، لكن يبدو أن الأطباء والطبيبات هنا محبَطين أو مدَمرين نفسياً.
بداخلي سكون رهيب، لعله ترقب أو تسليم ورضا بكل ما هو آت. لعل كثرة المواقف الصعبة والتجارب المؤلمة التي مررت بها طيلة حياتي جعلتني في حالة من الترقب لكن مع الرضا، فقد أعلنت منذ زمن مضى تمام الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك. فهمتُ من تجاربِ حياتي أن عليَّ الأخذ بالأسباب بدون أن أُعلق قلبي بها، بل أن أتوكل على الله وأرضى بكل ما كتبه عليَّ.
أما من خارجي فالأخذ بالأسباب يجعل الحركة مستمرة، بلا هوادة. أتنقل بين الكمادات والحقن والممرضين والأطباء ومكتب الاستقبال ومكتب موظف التأمين الطبي، والتقارير الطبية. والحوارات المصطنعة من جهتي مع الأطباء محاولة تفسير ما يجري لزوجي من أعراض، لكن ترتسم الحيرة على الوجوه.
فجأة يسترعي انتباهي حوار، أستمع لأسئلة المحقق مع المريض، على السرير المجاور، مقيم عربي في الأربعينات من عمره، نحيف جدا، ملتحٍ لحية خفيفة، يبدو عليه الهدوء، يرتدي نظارة طبية، قد أقدم على الانتحار بعد أن رمى بطاولة في وجه زوجته. تخيلت الخلاف الذي نشب بينهما، سمعت أصواتهما تختلط، ورأيته يقدم على الانتحار، وهي تبلغ الإسعاف. وأنا في ثباتي بجوار زوجي، أتأمل وأرسم المشاهد وأكتب السيناريو وأتابع الأحداث.
الحجرة التي تليها مقيمٌ آسيوي، تعرض لحادث سيارةٍ بشع، يبدو مهشما تماما لكن صوته عالٍ، ولديه المقدرة على إدارة حوارات هاتفية طويلة، واضح أنه يشرح لآخرين ما تعرض له. تسمع صوته الجهوري القوي فتتصور أن الإصابة طفيفة لكن بمجرد أن تراه تستوعب أن الرجل قوي الإرادة وشديد التحمل.
وعلى سرير في زاوية الحجرة نام الطفل المريض الصغير الحجم، بجوار والده المنهك، يبدو الوالد منهكاً جسدياً ونفسياً، أتساءل في نفسي: أين والدته؟ كيف تركته ينام بعيداً عنها هنا في هذا الزخم من البشر ومن الألم؟! احتضنه والده بين ذراعيه في سكون، واستسلما للنوم، وجهاز التنفس على أنف الطفل، وأبرة المغذي في يده، وقنينة المغذي البلاستيكية تسقط نقطةٌ تلو أخرى داخل الجسد الصغير.
أذان الفجر يصدح في المكان، أتوضأ ثم أصلي، أدعو لكل من حولي من الحالات، بدأت أستوطن المكان فقد مرت علينا حوالي ثلاثة عشر ساعة ولم ينقل زوجي بعد لغرفة في قسم من الأقسام، والسبب عدم توفر سرير فارغ!!؟
ننتظر في ردهة الطوارئ ريثما تتوفر غرفة لكي ينتقل إليها ويبدأ العلاج المقترح والمتابعة للحالة عن طريق الأطباء المختصين. نظرت على ملف المريض الشخصي بين يدي الممرض وقد كتب عند التشخيص:
“حرارة شديدة غير معروفة المنشأ، جلطة في الرئة وجلطة في الساق تحتاج لمعرفة الأسباب”.
هنا في هذا المكان بالرغم من الصخب الخارجي الذي نعيشه، هناك تسليم داخلي بأن الشفاء بيد الله، وأن لا راد لقضائه إلا هو أن يأذن ويشاء، هنا بالرغم من اختلاف القصص وتعدد الحالات إلا أن التوجه واحد، والتذلل يجمعنا للواحد الأحد.
كلٌ منا يبث شجونه عبر صلاته ودعائه بين يدي الرحمن، صلاة الفجر تجمعنا، والألم يعتصرنا من الداخل، لكن الهدوء يطبق على المكان،
والدعوات والابتهالات تنطلق من الشفاه في وشوشات خفية