الثقة كصوت داخلي

أتذكر جيدًا ثقتي العالية بنفسي وبمن حولي عندما كنت طفلة، وخصوصًا في مرحلة التمهيدي. القصة باختصار كانت أنني اجتزت اختبارات التمهيدي في مقابلتي لمرحلة الروضة، فدرست التمهيدي مرتين مع نفس المعلمة -أبلة هند- وذلك لصغر سني. في السنة الثانية كنت طفلة مشاغبة جدًا لأن المحتوى التعليمي الذي كنت أتلقاه هو ذاته. أتذكر أنني كنت عندما تهمّ المعلمة بشرح الدرس، أُكمل الجمل التي تودّ قولها لأني حفظتها لتكرارها، كما أتذكر أنني كنت ضجرة وصرخت مرات عديدة: “أوووف… طفش نفس الشي نفس الشي”. أبلة هند أيقنت بعد فترة قصيرة بالرغم أنه ليس لها أي يد في تغيير أي من القوانين والتوقعات المطلوبة في ذلك الوقت، الّا أنه بإمكانها تغيير تجربتي في الصف في سنتي الثانية. قامت أبلة هند بتعييني كمساعدة لها طوال تلك السنة. أتذكر التحول الجذري الذي صنعته هذه التجربة الفريدة، لأني استمتعت بها بصنع فرق في فصلي واكتشفت حبي لمساعدة الآخرين، ولكن الأهم كان ثقتي العالية بنفسي وبدور المعلمة في تحسين تجربتي التعليمية وثقتي بنفسي. ما تعلمته في عامي الثاني كان معظمه مهارات حياتية استفدت منها داخل وخارج الحيطان المدرسية. لم أقابل أبلة هند بعد تخرجي من التمهيدي ولكنها كانت السبب الرئيسي في حبي للتعلم والتعليم وتخصصي في هذا المجال.

بعد هذه التجربة بعشرات السنين، وثقت بالصوت الداخلي الذي أخبرني بأنني متجهة في الطريق الصحيح وأنني أشق طريقي نحو هدفي الأكبر؛ استخدام الدراما كأداة تعليمية في المدارس السعودية. فأثناء مقابلتي الأولى مع مشرفي الدراسي في مرحلة الدكتوراه، قابلني رجل أبيض في العقد السادس من العمر؛ وفي لقائنا الأول شعرت بالضيق من بعض تعاملاته كنظرته القاصرة لي بسبب حجابي، هويتي كامرأة سعودية، ولكنتي التي تظهر بأن اللغة الإنجليزية هي لغتي الثانية. قال لي: “بالطبع ستكون هذه المرحلة مرحلة شاقة جدًا عليّكِ” وشدّ كثيرًا على كلمة “عليّكِ” لم أتجرأ أن أسأله لماذا؟ نظراته وتلميحاته للأسباب كانت جلية بالنسبة لي. خلال هذا اللقاء أحسست بالخدوش الأولى لثقتي بنفسي. على الرغم من ذلك كنت دائمًا أتعذّر لكبر سنه وأن يجب علي احترامه. أتذكر جيدًا كيف استجمعت قواي وثقتي بنفسي في تلك الجلسة وقلت له: أنا أرغب كثيرًا باختيار جامعتكم لإكمال الدكتوراه، ولكن للأسف لم تقدموا لي أي دعم مادي بعكس جامعة أخرى والتي قدمت لي دعمًا ماديًا كاملاً.. الرسوم الدراسية ليست بالأمر الهين. أعطني سببًا مقنعًا يجعلني أرفض عرضهم السخي.

 كنت أنظر إلى عينيه وهي تحدق فيّ. عندما أنهيت كلامي، عرض عليّ على الفور المشرف وقال: “هل تقبلين بالتدريس في الجامعة لطلاب البكالوريوس مقابل تغطية رسومك الدراسية مع راتب شهري بسيط؟”

أنا -في حالة ذهول من خلقه لهذه الفرصة الفورية-: بالتأكيد. أستطيع قبول هذا العرض. 

بدأت دراستي لمرحلة الدكتوراه. في السنة الأولى واجهت الكثير من الدعم والكثير من العنصرية. كانت من أصعب السنوات، بسبب الضغط الدراسي وعبء التدريس. بعض السلوكيات العنصرية كانت مباشرة وصادمة جدًا وبعضها كان مجهريًا لا يرى بالعين المجردة. كنت أقوم بتدريس مادة الدراما لطلاب البكالوريوس أنا وزميلتي من الجنسية الهندية، كان يقابلنا مشرفي بصورة أسبوعية ليخبرنا ماذا يجب أن نقدم في محاضراتنا. لم يكن يفعل الشيء نفسه مع أي من طلاب الدكتوراه من أصول بيضاء، بالطبع لم ألاحظ ذلك حتى وقت متأخر. ثقتي التي تعوّدت عليها بدأت تختفي شيئًا فشيئًا، ولكن وجود صديقتي الهندية معي ودعمنا الدائم لبعضنا صنع فرقًا كبيرًا في تجربتي.. 

من أكثر المواقف التي كنت أشعر فيها بالضيق عندما كنت أتعامل مع هذا المشرف كانت عندما كنا نحكي عن عوائلنا فكان هو يخبرني عن ابنته و كنت أحكيه عن والدي ودار بيننا الحوار التالي:

أنا: هل تعلم أن والدي يقلق علينا جدًا وخصوصًا أننا تفصلنا عشرات آلاف الأميال عنه. هو يعبر عن حبه لنا بطرق قد تكون مختلفة عن بقية الآباء فهو يتفقدنا بين الحينة والأخرى عن طريق برنامج يدعى find my friends ومن خلاله يتقصى الوقت المناسب للاتصال بنا، فإذا مثلاً وجد أنني في المكتبة أو في الجامعة لا يتصل بي حتى لا يزعجني.

المشرف: ألا تتضايقين من خرق الخصوصية هذه؟

أنا: أبدًا. إذا كان هذا ما يطمئن قلبه فليكن. لم يحدث أبدًا أنه منعني من الذهاب إلى أي مكان بسبب هذا التطبيق.

المشرف (بنبرة احتقارية): اممممم… هذا مثير للاهتمام.

 حينها، كنّا نناقش مواضيع عن العائلة والثقافات المختلفة، ووجدتني أشاركه هذه المعلومة من باب تعريف أكثر عنّي وعن عائلتي وعلاقتنا ببعض لا أكثر ولا أقل. قام هو بتغيير مجرى الحوار ووجدتني أغادر مكتبه متعجبة من تعجبه بعدها بفترة وجيزة. 

في اليوم التالي، ذهبت معه لأحد المدارس للقيام بورشة تعليمية لمعلمي المدارس في المدينة. في بداية الورشة قام كل منا بالتعريف عن نفسه والمادة/المواد التي ندرّسها. أتذكر أنني كنت أستمع جيدًا لهم وفجأة بدأ مشرفي في تعريفي لبقية المعلمين بطريقة مثيرة للاستغراب حيث قال: 

المشرف: تدريس العلوم الاجتماعية مهم جدًا، كمثال هنا شيماء. بالرغم من أن هناك قارات تفصل بينها وبين أهلها إلا أنها تحت مراقبة والدها ٢٤ ساعة.

الجميع: (نظرات الصدمة والذهول).

أنا: (في حالة صدمة غير مصدقة أنظر إلى مشرفي ثم إلى الحضور).

الحضور: (نظرة شفقة كريهة جدًا).

الثقة التي أودعتها لهذا المشرف وحاولت بناءها في تلك الأشهر، والتي كانت السبب الأول في تفضيلي ووضع ثقتي الكاملة في اختيار هذه الجامعة دون غيرها… انهارت و تضعضعت فجأة.. في لحظة… انكسر شيء بداخلي. كنت كما يقال باللهجة الحجازية “أغلي من جوّا.” شعرت بالذنب لأن والدي في ذلك المجلس كان يُنظر إليه بنظرة قاصرة جدًا أبعد ما تكون عن الحقيقة. هذا الموقف كان صفعة على الوجه للطريقة التي ينظر لها البيض للمرأة المسلمة التي اختارت إظهار هويتها من خلال حجابها بشكل عام، والمرأة السعودية بشكل خاص. بالرغم من كل المؤهلات والخبرات التي استثمرت وقتي وقدراتي لتنميتها، كل ذلك، لم يكن يهم حينها فكل ما كانوا يرونه هو أنني امرأة مظلومة مستبَدة تحتاج إليهم لينقذوها ويحرروها، النظرة الاستشراقية السائدة. لم يسألني أي أحد منهم أو يشكك في صحة ما قاله هذا المشرف. لم يستمعوا إلى قصتي مني، بل حبذا من رجل أبيض حرّف وشوّه جمال العلاقة العائلية الوثيقة في معظم العوائل السعودية دون أي استئذان. حق لا يستطيع نزعه بأي شكل من الأشكال من أي شخص يشاركه عرقه الأبيض.

استجمعت قواي لأعبر له عن استيائي منه بعد انتهاء الورشة قلت له:

أنا -بغضب مبطن وتوتر-: يادكتور، لم أقدّر أبدًا مشاركتك لمعلومة خاصة عني و …

المشرف (مقاطعًا): نعم نعم فهمت… أنتِ حساسة جدًا.

أنا: (في حالة قصوى من الذهول وصدمة لعدم سماعي لاعتذاره) 

المشرف: (يغادر المكان ويتركني مصدومة)

كنت أريد أن أخبره أن من تحدث عنه ليس والدي ولا يمثله بأي شكل لكنه قاطعني ولم يعتذر… ولم يعبر عن أسفه. صُدمت منه ومن عنصريته المقيتة، والتي ظهرت في سلوكه ومقاطعته لحديثي ونعتي بالحساسية لكوني امرأة بدلاً من التفكير والتساؤل عمّ أشعرني بالضيق ولماذا شعرت بهذا الشعور. شعرت بأنني صغيرة جدًا في تلك اللحظة، تمنيت ولو أن الأرض “انشقت وبلعتني” لأني لم أشعر بأن لدي صوت مسموع في تلك المساحة. وفي اللحظات القليلة التي شعرت أنني أخيرًا نقلت جزءًا من قصتي عندما تحدثت معه في مكتبه، نقلها هو بصورة مشوهة جعلتني أندم على فرحتي بحصولي على هذا الاهتمام. 

في الأيام والشهور التي تلت ذلك الموقف، بذلت جهدًا شخصيًا جبارًا لإعادة الثقة بنفسي. استمرت معركتي مع الأكاديميين، وخصوصًا الرجال، في إثبات صوتي ونقل أجزاء من قصتي كما هي، والتعبير عن رأيي بدون خوف أو تردد. واجهت العديد من المواقف التي جعلتني أتساءل عن مدى قدرتي على التحمل واستطاعتي إكمال مشوار حصولي الدكتوراه. فمرة من المرات واجهت أحد دكاترتي والذي كان يدرّسني مادة تحت مسمى Culturally Relevant Pedagogy والتي تعني بإدراج الثقافات المختلفة كأسلوب تربوي في الصفوف الدراسية. أتذكر جيدًا أنني بعد انتهاء محاضراتنا الثانية في ذلك الفصل، توجهت إليه مستاءة معبرة عن خيبة أملي في نقاش احتد لاحقًا بيننا:

أنا: شكرًا للمحاضرة الجميلة فأنا أتعلم مفاهيم جديدة كل أسبوع عن ثقافات وأعراق مختلفة… لكنني للأسف لا أرى في المنهج أي انعكاس لأي جزء من هويّاتي المتعددة (كامرأة عربية/ سعودية/ مسلمة/ آسيوية) في أي من المقالات والكتب التي سنقرأها، بينما معظم أقراني الأمريكيين البيض، الأمريكيين السود، الأمريكيين الأصليين، واللاتينيين يستطيعون قراءة الكثير عن ثقافاتهم كل أسبوع والكتابة عنها في مذكراتنا الأسبوعية، والتي تعتبر واحدة من الواجبات. أنا أعلم جيدًا أنني لست الآسيوية الوحيدة في هذا الصف فهناك أيضا زميلاتي الأندنوسيات وزميلتي الصينية.

الدكتور: لا نستطيع عمل ذلك لأننا في أمريكا.

أنا -في حالة ذهول-: ها؟؟ أنا في أمريكا!! أنا في صفك في أمريكا!! أقراني الآسيويين، العرب، المسلمين، السعوديين مقيمين في أمريكا كذلك، ويشكلون جزًءا مهمًا من مجتمعه.

الدكتور -بتوتر وتضجر-: حسنا!! أرسلي لي مقالة علمية محكمة وأنا سأفكر بالأمر.

أنا -في ذهول مستمر-: لا أظن أن هذا واجبي… لا أعدك أبدا أنني سأقوم بذلك ولكن سأرى ما بإمكاني فعله.

تركته وأنا مضجرة جدًا من كلامه وأسلوبه في الحديث! كيف يجرؤ ويجعلني في لحظة أتساءل عن حقيقة تواجدي كإنسانة بكيان كامل، ليس فقط في صفه، بل في المجتمع الأمريكي بشكل عام. كيف لدكتور بمنصبه واهتماماته البحثية أن يكون جاهلاً لهذه الدرجة، وكيف له أن ينظر إلي كغريبة في هذا البلد ليس لها أي قيمة. في حين أن أغلب النقاشات لاتثري في صفه إلا “بغرباء” أمثالي. أحسست بأن ثقتي بنفسي مرة أخرى تُخدش من قبل دكتور ذكر في المجال الأكاديمي.

بعد احتدام النقاش، لم أستطع أن أتوجه إلى مشرفي الأبيض لطلب الدعم بسبب استمرار مواقفه العنصرية. في المقابل اخترت بكل حرص وعناية دائرة الدعم التي أتجه إليها، والتي تكونت من نساء بيض بالإضافة إلى صديقتي الهندية. كان الجميع يظهرون كل الاحترام والتقدير لهوياتي وثقافتي المختلفة وقصصي ووجهات نظري التي قد تكون جديدة بالنسبة لهم، والأهم كانوا جميع صديقاتي البيض على علم تام بالامتيازات التي يحظون بها بسبب عرقهم الأبيض، والتي قد أكون بعيدة جدًا عنها بحكم كوني امرأة عربية. ولم أتردد يومًا بتذكيرهم بها عندما يستوجب الموقف. 

بعد عام كامل، بدأت آثار الضغط النفسي تظهر على جسدي بصورة دقات قلب مضطربة، وانخفاض شديد في الضغط مع الأرق الشديد والصداع المزمن، حينها قررت الاستماع لصوتي الداخلي واستجمعت كل ذرة ثقة في النفس، وأخبرت هذا المشرف عن رغبتي في تغييره والعمل مع دكتورة أخرى في القسم. لم يكن لدي حينها أي خطة بديلة. كنت واثقة أن التجارب هي التي تعلمنا من يجب أن نحترم، ومن سيكون جدير بهذا الاحترام. تخرجت بعد اجتيازي مناقشة رسالة الدكتوراه التي تدور حول هويات الفنانات السعوديات وطرق تتبعهم وتتابعهم لها. وكانت تجربتي مع هذه الدكتورة، التي آمنت بي منذ اللحظة الأولى، ولم تشعرني بضعف أبدًا، هي من الأسباب الرئيسية في تحقيقي لهذا الهدف. كتجربتي في الصف التمهيدي، تعلمت بأن دروس الحياة التي نتلقاها من خلال تجاربنا هي من أهم الدروس التي تقوينا كنساء في هذا العالم. فالتحديات التي نواجهها بالخوف تارة وبالضعف والقوة تارة أخرى، هي عامل رئيسي في تكوين النساء اللاتي يجتزن هذه التحديات. برغم كل العقبات التي تواجهنا في مختلف تقاطعات الطرق، في المجتمع، الغربة، مقاعد الدراسة، والمساحات الأكاديمية، والحياة اليومية، أجد أننا على الأغلب نختار المعركة التي نخوضها، ونستحق خوضها. فخورة جدًا بنساء بلدي وخصوصًا المغتربات واللاتي بالرغم من صعوبة التحديات أثبتن قوتهن الداخلية للجميع من خلال قصص الثقة التي سمعتها من الكثير منهن! ودائمًا استمعي لصوت الثقة الداخلي؛ فأنتِ بكل تأكيد تستحقين الأفضل!

Contributors