خطوات هادئة

by | Art by

.”عندما تغلقين باب المنزل أثناء خروجك، لا تنسي أن تتفقدي ثقتك كما تتفقدين جهازك الخاص”

جملة كتبتها ووضعتها في خلفية جهازي الجوال. أسترق النظر إليها كلما راودني ذلك الشعور المزعج الذي رافقني لفترة طويلة من الزمن. فبدأت معاناتي مع الثقة بالنفس في مرحلة متأخرة من حياتي، وفي مرحلة جديدة من حياتي أيضًا.

يخترق هدوء خطواتي أصوات مختلطة تتعالى من تلك القاعة الدراسية، فاليوم هو يومي الأول من رحلتي لإكمال دراسة “الماجستير” دخلت القاعة. ألقيت التحية، وجوه غريبة، وثقافات مختلفة، وألسن متعددة. شعرت بالخوف والتوتر وبدأت بتهدئة نفسي قائلة بصوت منخفض: حسنًا سوف يكون كل شيء بخير. 

أُكمل رحلتي الدراسية هذه بعد ثلاثة سنوات من العمل الجاد وتلك المسؤولية الكبيرة التي استلمتها في مكان عملي. فأنا أخصائية تمريض، قد شاهدت الكثير من الوجوه وخففت آلام الكثير من الناس، لا أنسى دعوات امرأة كبيرة في السن لي، ولا ذلك الشيخ الكبير الذي رقد في العناية المركزة (قرابة الشهر) الذي أمسك بيدي قائلًا: “يا بنتي لاتتركيني.”

أخيرًا كنت أشعر أن أصبح لدي الخبرة الكافية والمهارات المطلوبة لخوض تجربة جديدة في حياتي العلمية. لطالما كُنت مهتمة في البحثَ العلمي، وقد حصلت على أفضل بحث علمي على مستوى المملكة العربية السعودية عندما كنت طالبهَ في الجامعة. ولكن أَخَّرت انضمامي إلى برنامج الماجستير لحد ما شعرت إني قد اكتسبت الخبرة الكافية.

انتقلت من مجتمعي الصغير إلى مكان ومجتمع جديد يبعد آلاف الأمتار عن موقع سكني الأول في مملكتي الحبيبة مترامية الأطراف. انتقلت من شمالها البعيد إلى غربها الحبيب. لقد كنا مجموعة من الطالبات من أعراقٍ مختلفة وألوانٍ كثيرة وكذلك من ثقافات متعددة. أتينا مجتمعين من الشرق والغرب والجنوب والشمال من مملكتنا، جمعنا شغف العلم والبحثَ عن الفرص الجديدة.

ولكن كان هناك شيء آخر يجمعنا أيضًا، ذلك الشعور بالمنافسة والمقارنة بيننا. ولا أعرف لماذا أو من أين نبع ذلك الشك والشعور داخلنا ولكنه من الأكيد أنه أثّر علينا وعلى معاملتنا ونظرتنا لأنفسنا ولبعضنا البعض. 

حينما بدأت الرحلة لم أكن أشعر بذلك الشيء، على العكس كنت أشعر حينها بقوة في النفس وثقة عالية جدًا والانفتاح على الآخرين. وأتذكر حينها أنني كنت أشارك وأناقش وأعرض أفكاري في الأيام التي تلت، وما أحمل بين جوانحي من حلم وأمل للمستقبل.

لم تمض مدة طويلة حتى أصبحت هادئة لا أتكلم إلا حين يطلب مني وبعض الأحيان لا أجيب.

وذلك بسبب الشعور الذي تسلل ببطء إلى داخلي واستقر في نفسي، وهو الإيمان بأن أفراد المجموعة هم أجدر مني في العلم والفكر والثقافة، وحتى المظهر الخارجي. لا أستطيع وصف كيف بدأ الشعور بالضبط، ولكن آثاره بقيت معي فترة طويلة جدًا. 

فبدأت المقارنة المستمرة تشتعل في رأسي وبدأ الشك في نفسي ينتشر كانتشار النار في الهشيم. كنت أنظر لمن حولي وأسأل نفسي بانكسار: هل أنا ذكية حقًا؟ هل أنا فعلًا جميلة؟ هل أنافس الأخريات في الأناقة؟ هل أنا على المستوى المطلوب من الكفاءة العلمية؟

بدأت الشرارة حينما وجهت لي زميلة سؤلًا لماذا ترتدين هذا؟ أجبتها ببساطة أنا مقتنعة من مظهري لماذا أغيره. وعندما ناقشتني أخرى لم نكن نتوقع وجود الجمال القديم بينكم فأنتم في (آخر الدنيا)، وتبعتها بضحكات… ابتسمت ثم أجبت: هل إذا كنا في أقصى الخريطة يعني بأننا لسنا موجودين على هذه الأرض؟ وهل يصنف الجمال بالقديم والجديد أساسًا؟

المجتمع الجديد والثقافة التي انضممت إليها مؤخرًا جعلني أشعر بضغط متزايد، بعد ذلك أصبحت أردد في نفسي لماذا أشعر بهذا الشعور المزعج وما أصل هذا الشعور؟ كيف تولّد؟ 

نعم إنه “اهتزاز الثقة” تساءلت كثيرًا حينها، ماهي الثقة؟ وكيف أستطيع أن أحافظ على ثقتي؟ وكيف أحمي ثقتي بنفسي من سارقي الثقة؟ وهل أستطيع أن أدرب نفسي على الثقة؟ الشعور بالثقة هو إحساس ينبع من داخل أعماقي ويخبرني بأنني أستحق وأن لدي الكثير. تساءلت كيف استطاعوا الوصول إلى داخلي؟ وكيف كانت رسائلهم المباشرة وغير المباشرة؛ كالسهام التي تخترق ثقتي بنفسي. لا أحد يستطيع أن يقتحم داخلي عنوة ويؤثر فيّ، إلا إذ سمحت له بذلك، ومشاعري تأتي تبعًا لأفكاري فإذا كانت الفكرة بعدم الثقة نشأت داخليًا وترعرعت في الشعور بعدم الثقة يتدفق بعد ذلك.

أعود بذاكرتي للخلف وأتذكر حينما بدأت أول يوم دراسي وكنت على سجيتي بقناعاتي في اللبس والمظهر والأزياء وكانت ثقتي بنفسي عالية جدًا. بخلاف الفترة التي تلتها غيّرت من مظهري كليًا وحاولت جاهدة أن أكون مثلهم. ولكنني لم أستعد ثقتي بنفسي. ولم أتخلص من ذلك الشعور المزعج.

أطرق رأسي ويسبح فكري بين ممرات الجامعة العريقة وأنا ذاهبة إلى القاعة الدراسية وأتمتم بهذه الكلمات في نفسي بين الحين والأخر (لا تدعيهم يسرقون ثقتك بنفسك، تدرّبي على رفع ثقتك بنفسك) في نهاية تلك السنة كانت الصدمة الكبرى عندما أظهرت النتائج بأنني حققت تقدمًا أفضل من الجميع في الدرجات والتحصيل العلمي والأكاديمي. لم أعرف حينها كيف أفسر الأمر!

تعلمت من تجربتي السابقة أن قيمة الإنسان ليست في علمه أو مهاراته أو مظهره، أو ما يلبسه من ماركات عالمية، قيمة الإنسان هي إنسانيته في ذاتها من دون أي شيء آخر. استعدت ثقتي في نفسي عندما توقفت عن مقارنة نفسي بالآخرين، وعندما نظرت للجمال الذي في داخلي، وعندما أحببت نفسي وتدربت على كيفية الثقة بالنفس.

Contributors