لم ولن انسى

ظهرا.. ارتدت فستان صيفي بارد كلون البحر مع حذاء رقيق مناسب لفصل الصيف الحارق في ذلك الوقت من السنة، واضعة عبائتها السوداء ذات النقوش الحمراء على كتفيها. غادرت منزلها والكل نائم، لم ترد ان تزعج والديها، فهي كالعادة تحب ان تذهب لمواعيدها الروتينية من غير صحبة احد.
كما اعتقدت دائما، نعم كل شيئ على ما يرام، صحتي ممتازة، لا احتاج صحبة احد، سآعود في اقل من ساعة لآبشر والدي بان صحتي جيدة.
وصلت الى المشفى في تمام الساعة ١١:٣٠، كان المشفى شبه خالي، الا من الطاقم الصحي الذي لا يمل ولا يكل من خدمة الجميع.
اتخذت مقعدا في زاوية الصالة، اخرجت كتاب عن آحدى الشخصيات التاريخية المعروفة، وبدات في قرآة السطور بنهم، بعدما يقارب العشر دقائق، قامت الممرضة بندائها لعمل الفحوصات اللازمة من قياس ضغط الدم، الوزن و حرارة الجسم. كانت مبتسمة كعادتها، متاكدة بان كل شي على ما يرام. ضغط الدم كان مرتفعا على غير العادة!! وزنها في ازدياد!!

لثاني من رمضان عام ٢٠١٢، الساعة ١١ا
ضحكت ومازحت الممرضة قائلة (رمضان الكل راح يزيد وزنه).
بعدها انتقلت الى غرفة استشاري امراض الكلى، سلمت على طبيبها مبتسمة، و بعد كل الاسئلة الروتينية عن الحال، العمل و رمضان. سالها طبيبها (كيف صحتك، حاسة كل شي تمام)
اجابت (الحمدلله كل شي تمام، احس شوية دوخة)

سالها الطبيب (الدوخة تعطلك عن عملك؟)اجابت بعد مهلة من التفكير ( احيانا!! خير دكتور في شي؟ التحاليل فيهم شي؟)
الطبيب ( انشالله كل شي خير يا بنتي، بس انا ابغاكي تتنومي عندنا، عشان نعمل لك فحوصات ثانية)
سآلت (خير يادكتور! الفحوصات و التحاليل الي عملتها ما كانت كفاية؟)
اجاب ( شوفي يابنتي، كليتك و لله الحمد وظائفها كانت مقبولة في خلال الثلاثة السنين الماضية، طبعا انتظامك على العلاجات و الحمية الغذائية ساعد في تقليل الضرر على كليتك، و زي ما انتي عارفة ان وظائف الكلى عندك ضعيفة، ،ضعفت مع الوقت. ما اعرف اش اقولك بس الكليتين عندك في طريقها للضمور، ما نعرف كم راح تاخذ الا ان تتوقف عن العمل نهائيا، عشان كذا الافضل تتنومي عندنا لعمل الفحوصات اللازمة عشان نتاكد)
انتهى موعدها، خرجت من غرفة الاستشاري مصدومة!! سآعود غدا للتنويم!
هل انا فعلا على ما يرام!! ام كنت (اتظاهر) انني على مايرام!!
ذهبت الي زاوية في منطوية في المشفى، جلست على كرسي وحيد في ذلك المكان المعزول، آمالت برآسها للاسفل، نظرت الى قدميها!!!! عندها ادركت ان الطبيب على حق!
قدماها كانت متورمة و متضخمة!! نعم هيا رآت ذلك من قبل، ولكن هيا دائما كذلك، تكابر و تتصنع (انها بخير)
نعم يجب ان تعترف (انا مصابة بالفشل الكلوي)
في ذلك اليوم لم تتوقف دموعها المنهمرة لحظة، بكت وكانها تودع الحياة، بكت على كل الاحلام المنتظرة التي لم وربما لن تحققها. بكت لانها ادركت ان ما اصابها لم يكن ليخطئها و ما آخطئها لم يكن ليصيبها.بعدها بدآت مرحلة جديدة من حياتها كمريضة فشل كلوي!
العشرون من رمضان عام ٢٠١٢، الساعة ٩ مساء.. فتحت عينيها على صوت والدتها الحنون.. (يلا جات الممرضة، خلينا ننزل تحت). ساعدتها والدتها في النهوض من السرير و الجلوس على الكرسي المتحرك. دفعتها الممرضة خارج الغرفة، رافقتها والدتها وهيا مبتسمة، محاولة اخفاء دموعها الحزينة. اخذت الممرضة تتحدث معها عن الطقس و الاجواء و المرضى. هيا لم تصغي ابدا، كانت شاردة، بائسة.
بعدها سمعت صوت امها يناديها (وصلنا حبيبتي، هاتي يدك). نظرت حولها، وجدت نفسها امام كرسي كبير، و بجانب الكرسي جهاز كبير غريب الشكل. كان الجهاز متصل بالعديد من الانابيب و المحاليل.
عندها ادركت ان هذا الجهاز ما هو الا (كليتها الجديدة!!) نعم هذا الجهاز هوا الذي سيقوم بوظيفة الكليتين من تعقيم و تنظيف الدم!!
آليس ابن ادم ضعيف! عندما يفقد كليتين، لاتزن الواحدة منهما اكثر من ١٦٠ جرام، يعوضها بجهاز ضخم كهذا!! سبحانك ربي ما اعظمك!
جلست على الكرسي، بدات الممرضة (بتشبيك) الاسلاك في جسدها الهزيل، و كآنها جهاز آلي، لا تختلف عن الجهاز المجاور لها. اغلقت عينيها.
بدآ الجهاز بالدوران، كم هو مؤلم شعور الدم، وهو يسحب من جسدك ليدخل ذلك الجهاز الضخم، ويعود الى جسدك محملا بكل تلك المحاليل و المكملات!
بعد مرور ثلاث ساعات، انتهت اول جلسه لها في (غسيل الكلى)
كانت منهمكة، حزينة، باكية..
عند صعودها الغرفة، وجدت باقة ورد بيضاء ناصعة عند مدخل غرفتها،لم تآبه لها و لم تعرها اهتماما!
ذهبت الى سريرها استلقت عليه، بمساعدة من والدتها و الممرضة، اغمضت عينيها، ارادت ان تهرب من هذه الدنيا، وان تسافر بخيالها بعيدا عن واقعها.
سمعت همسا حنونا كعادتها (عجبك الورد؟)
فتحت عينيها (مروان، كيفك؟ مرة عجبني شكرا).. قالتها بصوت حزين باكي
اغلقت عينيها و بدآت عينيها تنهمر، دموع حسرة، دموع الم..
استمرت على هذا الحال في ما يقارب الشهرين، غسيل الكلى، مرتان في الاسبوع لمدة ثلاث ساعات..
هيا اعتادت، بل وجدت نفسها انسانة جديدة، هي لم تملك خيارات اخرى (لازم استمتع بوقتي مهما كان)
اخذت تقضي وقتها في قرآة الكتب، مشاهدة الافلام، تعرفت على اشخاص عانوا من نفس مرضها، هم اكبر سنا، و لكن مالمشكلة، فنحن نتشارك ذات الالم ذات المكان..
ولكن هل هناك مستقبل؟ المستقبل شبه مستحيل!! نعم ذلك ما اقنعت نفسها به !!
و لكن هل هناك مستحيل؟!
نعم تحقق المستحيل.. فالقرار الذي اتخذه اخاها، هو الذي غير مجرى حياته و حياتها.. نعم، هو قرر ان يطبق قول الله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)
نعم هو احيا تلك الروح الباكية.. احياها بقطعة من جسده.. وكآنه يسلمها مفتاح السعادة من جديد. فقد اتخذ قرار التبرع باحدى كليتيه لها!
ما اصعب القرار و قتها، هي ارادت ان تعيش و ان تعود لحياة طبيعية.. ولكن آخي مازال صغيرا، في مقتبل العمر، آمامه مستقبل وحياة!! هو يستحق ان يعيش بجسد كامل!
ولكن كم هو عنيد، هو قرر و آصر، لم يترك مجالا للنقاش او التراجع ..
هي، كانت خائفة مضطربة.. و لكن اجتماعها بالآطباء المختصين ومناقشة العملية و آثارها على المريض و المتبرع ، هو ما جعلها توافق على تضحية اخاها..
علميا، يستطيع الشخص البالغ ان يعيش بكلية واحدة، دون الاضرار بصحته الجسدية، حتى على المدى البعيد.. تاريخيا، الكثير من الجنود في الحروب العالمية السابقة، من فقد كلية واحدة، و قد اثبتت المتابعات الصحية المستمرة لهؤلاء الجنود ان نشاط الكلية الواحدة كان طبيعيا جدا مقارنة بشخص ذو كليتين سليمتين..
في يوم السبت الموافق ٢٥ سبتمبر من العام ٢٠١٢ .. تمت عملية زراعة الكلية بنجاح
فترة النقاهة لها استمرت ٣ اشهر من العلاج المكثف و الوقاية
اما هو فبعد شهر من النقاهة عاد لممارسة حياته الطبيعية بشكل كامل ولكن بعضو جسدي ناقص..
هيا عادت لها الحياة تدريجيا.. تحول ذلك الوجه الذابل الحزين.. الى وجه متورد بحب الحياة..
بدآت احلامها تتهافت من جديد.. عادت لممارسة حياتها الطبيعية وكآن شيئا لم يكن..
هذه هيا (آنا) و ذاك هو (آخي)..
تلك القصة التي اخفيتها عن الجميع ما يقارب الاربع سنوات .. احببت انا ابوح بها لاول مرة ٠٠
ولآعترف للجميع ان الحياة لا يوجد بها مستحيل ما دام هناك امل.. آمل في الله لا ينقطع ابدا..
وامل في عائلة تدعم و تصبر وتشجع حتى النهاية ..
امل في وجود اخ حنون و محب.. ضحى بقطعة من جسده .. معبرا عن حبه و امتنانه لعائلته اولا .. و لاخته ثانيا..
هنا ادركت انا الحياة غالية.. واغلى مافيها وجودي وسط عائلتي ..
اغلى ما فيها وجود آخي.. ذلك القلب الحنون .. الذي لم يمل او يكل و هو يمسح دمعتي ليل نهار ..
ان يكون لك آخ.. تلك هيا سعادة الدنيا.. و طعم الحياة..
فالاخ هو الاب الصديق الرفيق و الحبيب.. مهما كتبت وحكيت و سردت، فلن اوفيه حقه ابدا..
الآخ هو السند الذي تلجآي اليه وقت الشدة، هو الكتف الذي تسندي رآسك عليه..
هو ثاني حب في حياة كل فتاة بعد حب الاب.. هو اول صديق لها…
آخي و حبيبي و صديقي.. يا من منحتني حياة جديدة بعد الله.. يامن رسمت فرحة على وجهي.. يا من ابكاك ما ابكاني و اسعدك ما اسعدني..
حبيبي (مروان) شكرا من قلبي..

Contributors