عادةً عندما يتم تناول مصطلح (الثقة) في الحديث عن المرأة، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا أشكال وجوهنا، وأجسادنا، وقياساتنا، وما يجب أن نكون عليه لنتماشى مع المقاييس والمعايير العالمية التي حولت أشكال وأجساد النساء إلى نموذج مستنسخ! ضاربين بالفروقات الجمالية التي خلقنا بها عرض الحائط، ومشوهين فطرة الأذواق البشرية.
لكني هنا أتحدث عن الثقة المهنية التي تواجه النساء.
أذكر قصتي الشخصية مع (ثقتي الفنية) التي كانت عالية عند دخولي عالم الفن قبل ١١عام.
طموحة، مملوءة بالحماس، راغبة بالشهرة.
معتقدة أن الأبواب مفتوحة على مصراعيها لاحتضان موهبتي.
وأن دروبي الفنية مفروشة بالورد والياسمين.
كنت أتعلم، وأجرب، وأخطئ.
لا أنسى أبدًا توبيخ مدربة الرسم لي حين فشلت في تعلم الرسم التكعيبي.
كنت أعيدها مرارًا وتكرارًا، حتى مللت اللوحة وملّت مني.
لم يكن هذا عائقًا في طريق طموحي.
كنت أتعلم من شخص محترف قد يفيدني في تطوير موهبتي.
لوحة تلو لوحة وهدف المعرض الشخصي أمام ناظري.
كان تحديًا كبيرًا. أقضي ساعات طوال في الرسم متناسية حتى الأكل.
بدأ وزني بالانخفاض، بينما لوحاتي كانت تزداد عددًا.
حتى بعد عام ونصف استطعت أن أقدم معرضًا شخصيًا.
صحيح أني صُدِمت بعدم بيع أي لوحة.
ولكني اعتقدت إنني كسبت اعترافًا بأني فنانة وهذا كافٍ.
بعد ذلك بعامين أقمت معرض ثنائي بالمشاركة مع فنانة فرنسية وحقق نجاحًا باهرًا، وبعت نصف لوحات المعرض.
شعرت بالانتصار وبالفخر وأنا أكسب التحدي.
الحمد لله أن تعبي لم يذهب سُدى.
استمريت بعدها لسنوات في إقامة المعارض.
ولكن ثقتي لم تصمد طويلًا أمام تجاهل وعدم اهتمام المعنيين بالفن (المحترفين) به.
كنت كلما تقدمت أكثر وتطورت في فني وفي طرحه وجدت تجاهل أكبر.
وكلما طرقت الأبواب، أجدها تفتح للغير -الأفضل والأقل- مني بكثير.
ولم أجد مقياسًا استند عليه. لماذا يتم تجاهلي؟!
هل كان فني أقل من المطلوب؟ أم أني لم أكن أملك علاقات ونفوذ في المجال الفني؟ أو لأني لم أملك شهادة بهذا التخصص؟
هل كنت دخيلة؟ أم أني لم أكن فنانة أصلًا؟
هذا التجاهل لكل ما أقدمه من فن -أجزم يقينًا أنه على مستوى عالي- يجعلني أفكر جديًا بترك هذا المجال غير الحيادي والظالم لموهبتي.
هذا التجاهل غير المبرر جعلني أشعر بثقل وكآبة الفن، أشعر وكأن أسقف صالات المعرض ستسقط علي وتكتم أنفاسي.
كنت أشعر وكأن المكان خالي من الأكسجين وأنا أتجول بين الأعمال المعروضة، وكأن شيئًا ثقيلًا يجثم على صدري كلما تحركت بين الصالات.
كنت أفضّل ترك الفن على العيش بهذا الشعور الخانق..
لكن… لم استسلم، كنت أبحث دائمًا عن المخرج.
سألت القيّمة الفنية التي كنت أعمل معها على مشروعي
لماذا يحدث كل هذا لي؟
قالت: “هذا الكرسي الذي تجلسين عليه.. كل اللاتي جلسن عليه قلن نفس الكلام الذي تقولينه”.
أدركت حينها أن هذا لم يكن نقصًا بفني، ولا جهلًا بتطوير فني.
إنما لأمور أخرى خارجة عن إرادتي كفنانة.
سألت إحدى المختصات بالهوية الفنية.
ماهي هويتي؟!
بعد أن سمعت كامل قصتي.
قالت: “غادة.. أتجدين حرجًا في كشف ذاتك؟!”
أجبتها: قطعًا.
ردت: “ممتاز! الشجعان لا يخشون ذلك”.
“أخبري الآخرين من خلال فنك ما تعانيه المرأة الفنانة. لأني أعرف الكثيرات مررن بما مررتِ به، وخشين التعري أمام الآخرين”
لم أفكر. بل قلت: نعم. أنا هي من تكسر الصمت الذي يصم الآذان.
ما مررت به، لم يكن تجربة شخصية. بل عرفت الكثيرات بشكل شخصي مررن بنفس تجربتي.
إنما هي تجربة فنية نسوية تمر بها الكثيرات اللاتي عرفتهن واللاتي سمعت عنهن، ممن آثرن الصمت على الانكشاف عن الذات.
قررت أن أتخذ لفني منحنًى جديدًا، حيث يصبح سردًا وتوثيقًا لقصصي الشخصية.
وهنا تكمّن قوتي في حكايتي….