توجهت إلى المكتب الذي كان شديد الظلمة وصار -بقدرة لا أعرفها أو بفعل أبطال الصيانة- أكثر بهجة وإنارة. أتأمل الرسمة التي علقتها خلف مكتبي، رسمة عازفة البيانو التي رسمتها في يوم شديد الألم والحرقة.. وأنا أبتسم.
كنت فتاة متفوقة دومًا من أولى سنوات الدراسة وإلى أيام الجامعة. من نجاح لنجاح ومن إنجاز لإنجاز، حتى عندما تواجه صعوبات وتعثرات، لابد أن تجد لنفسها طريقًا آخر لتتميز. وإذا بيوم تاريخ ١١ نوفمبر وفي ساعة قريبة من الحادية عشرة صباحًا، تقرأ خبر رسوبها في أهم وآخر اختبارات حياتها العلمية. الاختبار النهائي الكتابي لمزاولة مهنتها. قدّر الله أن تبدأ سنة الكرب، و الحمد لله على كل حال…
لمن هم خارج المجال الطبي -لابد من التوضيح- هذا الاختبار هو نهاية مرحلة قدرها ٤سنوات من حياة عبارة عن دوام عيادي، مناوبات، اختبارات سنوية، كتابية وشفهية، تؤهلك لدخول اختبار الزمالة في الطب. ولايخفى على المتخصصين أنها ٤سنوات تسبقها ٧سنوات من بكالوريوس الطب. ١١سنة من الجهد والتعب والمثابرة. لا أعلم إن أصبت حينما سميتها “حياة” فهي مرحلة غير سهلة، تتخللها بعض العثرات أو الكثير منها. لم تكن آخر ٤سنوات وردية بالنسبة لي. حان وقت مشاركتها لعلها تفيد أحدًا يمر بتجربة مثيلة..
لا زلت أتذكر عندما قرأت “لم يجتز”. أتذكر الوقت، أتذكر الكنبة التي كنت جالسة عليها، أتذكر شعوري وجريان الدم البطيء في عروقي والتنميل الذي صاحب جسمي..
لم أبكِ لحظتها رغم إنني معروفة لكل من يعرفني أن “دمعتي على خدي”. اتصلت به، فسأل: “بشّري!؟” وهي جملة كان يرددها في الأسبوعين الماضيين من بعد انتهاء الاختبار، فرديت: “ما نجحت…” وسرعان ما قال: ” أنا جاي الآن”.
بدأت واحدة من أسوأ سنوات حياتي… أقول إنها “واحدة” لأنني أعرف الألم من تجارب سابقة مختلفة. أؤمن بقوله تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِى كَبَدٍ” ولكن في أعماقي كنت أخشى أن أعيش هذا النوع من الكبد، لدرجة أني لا أتمناه لأحد.
كنت قد وعدت بناتي بالذهاب إلى Winter Wonderland واشترينا التذاكر من الليلة السابقة. وكان سؤال ابنتي: هل سنذهب؟ أجبت: بالطبع، فأنا لا أخلف بوعدي.. وببساطة ليس من العدل أن أحرمهم من فرحة انتظروها بشدة لمجرد أنني لم اجتز “اختبار”.. ذهبنا وكنت أبتسم معهم، وأركب الألعاب وبين كل لعبة وأخرى، تسيل دموعي في طابور الانتظار. أتذكر ابنتي ذات الست سنوات وهي تقول: “But you studied, mama” وفي قلبي الرد: “Apparently, I didn’t study hard enough”.
وبدأت سلسلة فقدان الثقة.. أتخيلها دائمًا كلعبة (دومينوز) مع سقوط أول قطعة، تتهاوى كل التشكيلة الباقية. بدأت أشك في كل إنجازاتي: هل أنا ابنة بارة؟ زوجة محبة؟ أم صالحة؟ صديقة وفيّة؟ أخت موجودة لأخواتها؟ طبيبة مخلصة؟ هل بالفعل نلت أرقى تعليم عالي عن جدارة؟ هل قد تميّزت يومًا؟ بدأ عقلي يردد: “ربما لم تكن إلا صدفة، حظ، غلطة، أو حتى كذبة.. كذبتها على نفسي وصدقتها”. أيام وأيام من السواد والظلمة.. والكثير من الخواء والبكاء. في فترات كنت أشعر أني أتسلق من الوادي العميق الذي سقطت فيه ولكن سرعان ما أسقط مرة أخرى. إذا شاهدت فيلم ديزني الأخير (Soul) وبحثت عن اللقطة التي انصدمت فيها شخصية ٢٢ نفسيًا، ربما يظهر لك ما أتكلم عنه.
فقدان الثقة كان يتلازم مع شعور الفقد بأشكال عديدة. فقد الثقة كان يصاحبه فقد الانتصار، فقد الفرح، وفي أوقات فقد النفس. ولو أن شعور الفقد لم يكن بجديد علي، لأنني فقدت والدي منذ سنوات عديدة، إلا أن اختلف شعور الفقد هذه المرة.. فعندما أستشعر فقدان والدي، أدرك بأن لا حول لي ولا قوة فيه أما في فقدي للنجاح وفقدي لثقتي ونفسي، فأنا جزء كبير منه، ولومي لنفسي هو بمثابة خلفية عقلية لكل يوم عشته بعد النتيجة.
كنت أتساءل يوميًا وباستمرار: “Out of all people, why did it happen to me?!” كنت أعد الأيام القليلة التي تمر من دون أن أبكي فيها وأقول: “الحمد لله بدأت أتحسن”. ولكن سرعان ما أعود كما كنت. كم هو صعب شعور الهزيمة، وممن؟ من نفسي أكثر من أي شخص آخر.
كم مرة تظاهرت بأني على ما يرام.. وكم مرة رسمت من ابتسامة مزيفة.. حتى أن البعض قال: ” Wow! She’s really ok”
قد أكون متحيزة فيما سأقول ولكن أعتقد أن بعض المهن تُصعب الهزيمة والتعثر أكثر من غيرها. في مهنة الطب على سبيل الخصوص، يمجد النجاح والناجحين من أول يوم نُقبل فيه في كلية الطب. وفي نفس الوقت لا تجد أحدًا يتكلم عن تجاربه الفاشلة إلا قلة القلة، وعلى مضض…
كم من الصعب أن تشعر أنك الفاشل الوحيد في ذلك العالم مع أنك تدرك أنك لست الأول ولا الأخير.
في تجربة الفشل وفقدان ثقتك بنفسك تجد من يحاول مساعدتك بنية طيبة، ولكن كما يقال “حفت النار بحسن النوايا”. تجد من الناس من يحاول مساعدتك بإسقاطك في خانة المريض الذي يحتاج لعلاج، ومنهم من يقول لك “Don’t let it define you”. ومنهم من يريد مساعدتك ولكن لا يعرف كيف، لأن الحقيقة هي أنه لا توجد أي مقولة تخفف الألم. تعرفهم وتشعر بهم وباهتمامهم الحقيقي وحتى أنك تشعر بالذنب، لأنك أقلقتهم عليك. ومن الناس كذلك من يظهر في حياتك من دون سابق إنذار فيكونوا لك السند بعد الله. ومن الناس أيضًا من “لما وزعوا الذوق، كانوا فوق” و “لما وزعوا الحواس، كانوا ينظفوا النحاس” وهي من مقولات أمي المحببة لقلبي.
وأنا انظر إلى هذه التجربة المُرّة بتفاصيلها، أقول الحمد لله. رغم أنني لا زلت لم أفهم حكمتها، ومتسامحة مع فكرة أني قد لا أفهمها أبدًا.
الحمد لله نجحت بعد عام الكرب، وبدأت استرد ثقتي بنفسي. فأصبحت علاقتي بأحبابي أكثر عمقًا.. وبفضل من الله زادت ثقتي بالله. وأنا أكتب قصتي الآن في مكتبي الذي أخبئ فيه كل حياتي من تفاصيلها الكبيرة إلى أصغرها.. يذكرني ضوء هذا المكتب البهيج، بأن ليس بعد الضيق إلا الفرج، والحمد لله أولًا وآخرًا…