يوم اللبن

.ترددت كثير في مشاركة قصتي معكم

بعد حوارات مطولة مع أقرب صديقاتي قررت فعلًا ممكن تكون المشاركة ضرورية عشان نستوعب أن كثير مننا .يمر بالصعوبات والتحديات نفسها، قد تختلف الأسباب والمواقف ولكن الشعور والمضمون واحد 

بدأت قصتي في عام ١٩٨٥، لما جدتي الله يرحمها (أم بابا) حضرت زواج وفي نيتها تخطب عروسة لأصغر أولادها.

وكعادة أهل مكة، طبعًا من مقومات الزوجة الناجحة إنها تكون بيضاء، شعرها طويل وناعم وتكون صغيرة.

طلبت جدتي من بناتها (عماتي) أن يبحثوا في الزواج على العروسة المناسبة، بعد مراقبة مشددة للبنات الحاضرات في الزواج وخاصةً البنات اللي يرقصوا على الكوشة. ووقع الاختيار على (ماما) بالإجماع. 

ماما جميله جدًا، شعرها أسود طويل وبيضاء زي بياض اللؤلؤ. وكان عمرها ١٦ سنة فقط.

بعد ذلك اليوم بكم سنة، ولدت… وطلعت سمراء لأهل والدي وأغمق وحدة في بنات عمومتي كلهم. 

ما كنت مستوعبة موضوع لون البشرة وأنا صغيرة. حقيقة ما كانت في البال ولا على الخاطر، كانت بنت عمي اللي في نفس عمري، وأكثر إنسانة أحبها بيضاء زي ماما بالضبط.. جميلة وشعرها أسود ناعم وخدودها حمراء. اختاروها تمثل سنو وايت في مسرحية الروضة، لأنها فعلًا تشبه سنو وايت. أنا من نصيبي كان دور القزم النعسان. 

كانوا دائمًا الأمهات في المدرسة يعتقدوا إن ماما هي أمها، وما يعرفوا إنها أمي أنا! ردة الفعل دائمًا كانت:

 “أوه، ليش بنتك كذا سمراء وأنتِ بيضاء؟”

 تكرر هذا الموقف حتى حفظته.. كل مرة ماما تبتسم وتقول “ايوة، هي طالعة سمراء زي أبوها وأهله.” 

لما كان عمري ثلاثة أو أربعة سنين، كل ما جيت أفتح الثلاجة أخد عصير أو بيبسي أو شيء، كانت ماما تجي من خلفي وتقول لي: “لا لا تشربي بيبسي عشان حتصيري سوداء زيادة،” وتحط يدها جنب يدي وتقول: “شوفي، لو تبغي تصيري بيضاء وحلوة لازم تشربي حليب فقط، عشان الحليب حيخليك بيضاء زيي…”

فكنت أمد يدي أخد الحليب وأقفل الثلاجة.. أتوقع هذيك الأيام اللي بدأت استوعب فيها أن الأبيض كان أحلى من الأسمر، وأن لازم نحاول يصير لوننا أبيض عشان نصير حلوين زي أمهاتنا… 

أتوقع أكثر ناس كان مضايقهم لوني هم أهل بابا…  كنا لما نرجع من البحر ونروح نزورهم، يفرشوا ركن في الصالة حقتهم بأوراق الجرايد ويفسخوني ملابسي كلها، ما أبقى إلا بشورت قصير، ويشتروا عشرة علب لبن زبادي ويدهنوا به جسمي كله، ويخلوني على الجرايد إلى ما ينشف اللبن عشان يفتح لوني. كنت أكره يوم لبن الزبادي، كان مرة بارد بالذات لما يدهنوه على ظهري، وكانت ريحته تخترق خشمي، وأحس نفسي كأني معاقبة، ما أقدر أخرج من حدود المتر في متر مساحة الجريدة إلى ما ينشف اللبن. وكل ما أقول لهم خلاص أنا طفشت! يقولوا لي: “لا يا ماما، كمان شوية الله يسعدك…ما تبغي تصيري بيضاء وحلوة؟” وقتها أسكت وأرد: “إلا أبغى” وأجلس إلى وقت الإفراج، تأخذني عمتي تحممني، وتلفني بمنشفتها الحمراء، كان قدام حمامها غرفة ملابسها وكان فيها مراية كبيرة.. بعد كل يوم لبن أوقف قدام المراية وهي تنشفني وريحة اللبن باقي لاصقة في جلدي وتقول: “ايوة، شوفي كيف فتح لونك…لازم كل أسبوع نعمل كذا الين تفتّحي.” 

قد ما الناس يمدحوا في أهل مكة وستات مكة وشخصياتهم القوية قد ما كنت أخاف منهم، 

صاحبات جدتي وعماتي كل ما أشوفهم كانوا يمزحوا معاي مزح أهل مكة، المزح الثقيل! 

خالة رقية دائمًا كانت تقول لماما: “ايش دا؟! بنت المليحة فضيحة.” 

وخالة فتو كل مرة تشوف ماما تقول لها: “وي.. ما عرفتي تجيبي لنا بنت حلوة زيك؟!”  

 خالة سعاد -الله يرحمها- كانت غير، كنت أحبها كثير، كل ما تشوفني كانت تحضني وتقول لي: 

“يا قمر يا هندي يا أحلى مشروب عندي،” مرة مرة كنت أفرح بها وبكلامها، يمكن لأنها كانت سمراء زيي. 

أمي الله يهديها كانت تستغل كل فرصة زعل بيني وبينها عشان تذكرني باختلافنا وأنا صغيرة، كانت تقول لي: “ما تشوفي كيف أنا بيضاء وأنتِ سمراء، تعرفي ليش؟ عشان أنا وبابا مرة كنا في المستشفى ولقيناك مع حجّة عند باب المستشفى، حزنّا عليك واخذناك تصيري بنتنا…أصلًا أنتِ مو بنتي الحقيقية عشانك ما تشبهيني أبد، ما عمرك لاحظتي؟” 

كنت أصدق، وأبكي وأزعل. وأقول لصاحباتي إن هذه مو ماما الحقيقية، وإني بنت الحجّة اللي تبيع لوز وحبحبوه عند باب المستشفى. إلى ما جاء يوم من الأيام واعترفت لي إنها أمي بالحقيقة بعد ما كلّمتها مشرفة مدرستي تستفسر عن أسباب خيالي الواسع وقصصي الخرافية.

أتذكر يوم لما خالتي ولدت أول بنت لها، كنت في سادس ابتدائي، أخذتني ماما نزور خالتي في المستشفى، وأتذكر جدتي تقول لأمي، “ايوة، طلعت بيضاء زي القمر الحمد لله.” ما عرفت ليش حسيت بطعنة في قلبي وقتها. 

ووحدة من المواقف اللي ما أنساها في حياتي: كنا في زواج وحدة من بنات عمي، وجات سيدة جلست جنب ماما، وقتها أتوقع كان عمري ١٧عام.. وسألت ماما عن اسمها بالعبارة الشهيرة بالمناسبات… “بنت مين ما شاء الله؟”

ضحكت ماما وقالت لها اسمها، سألتها السيدة عن عمرها، قالت لها ماما: “أنا متزوجة يا خالة وما شاء الله بنتي عمرها ١٧ سنة”. تفاجأت السيدة وقالت لها: “ما شاء الله! فين بنتك؟ وريني هي” قالت لها “دي بنتي اللي جالسة جنبي”، على طول كشّرت وقالت لها: “ليش بنتك سمراء كذا مرة ما تشبهك، ما عندك أخت أو قريبه تشبهك من أهلك؟”

سكتت، وبدأت الدموع تنزل على خدودي بسرعة حاولت إني أمسك نفسي بس ما قدرت.. قمت بسرعة ورحت الحمام.

أتذكر انكسرت يومها كسر كبير.. شيء داخلي تغيّر.. كان هو اليوم اللي تقبّلت فيه إني بشعة.. وإن ما عمري راح أصير حلوة.

مرت الأيام، ورزقني ربي زوج من اختياري، جميل قلبًا وقالبًا. ورزقنا ربنا سوا ببنت جميلة جدًا، في نظري 

أحلى بنت في العالم، سمراء زي أمها، ومع زوجي رزقني الله بأهل زوج منزلين من السماء، يتغزلوا في جمال ولون بنتي كل مرة يشوفوها، يمدحوا بشرتها السمراء، وشخصيتها المرحة.. ودائمًا يقولوا لها: “أنتِ حلوة زي ماما.” 

في البداية، ما كنت أصدق إن في ناس زي كذا، كنت مرة مستغربة من لطفهم وحرصهم الشديد على مراعاة نفسية بناتهم، كنت أحسب بس قدامي، ومع مرور الزمن ومعاشرتهم استوعبت إنهم حقيقتهم فعلًا كذا ما شاء الله تبارك الرحمن. 

بسببهم استوعبت أن يقدر الشخص يحب شكله، ويربي بناته إنهم يتقبلوا ويحبوا أشكالهم، واستوعبت إني أقدر بيدي أنهي العنف والتنمر المتوارث في عائلتي، وأثق بنفسي وشكلي، وأفتخر بلوني اللي اختاره لي رب العالمين. 

رغم تكرر هذه المواقف في حياتي من صغري.. وتعايشي معها وفهمي لها الآن، ألا تزال معركة داخلية مستمرة، كل ذكريات وآلام الطفولة المدفونة داخلي، تطلع بين الفترة والأخرى بتعليق بسيط من أحد أفراد عائلتي.

قبل كم شهر في الزيارة الأسبوعية عند جدتي (أم أمي).. بشرتهم جميعًا بقرار تعييني كدكتورة في الجامعة، باركت لي جدتي وقالت لي: “أكيد طالباتك في الجامعة حيسموكي الفيلة السوداء.” لما سألتها ليش؟ حرفيًا قالت لي: “لأنك تخينة وسمراء! روحي سوي رجيم وادهني كريم قبل ما يبدأ الدوام.” 

.ابتسمت والدموع تنزل من عيوني، زعلت على نفسي وعلى جدتي

.وفرحت أن بنتي ما عمرها راح تمر باللي مرت فيه أمها

Contributors